أمر .. " اذبحوا بقرة "
★ .. قبل ذلك بعشرين سنة .. فى مكان ما في صحراء سيناء عاد "سا-لم" من السوق بعد أن فرغ من بيع الحطب .. خائر القوى .. منهك الجسد .. ذابل العينين .. استقبلته زوجته "زه-رة" وولدهما "را-بح" ذا الأربع سنوات بلهفة والفرح يقفز من عينيهما .. وما لبثت أن تحولت فرحتهما بعودته إلى قلق على حاله المزرى .. فاحتضن "رابح" والده بحنان فى حين أسرعت "زهرة" لتحضير طعام الغداء .. وقبل أن تفرغ .. سمعت ولدها وقد علا صراخه وبكائه فإذا ب "سا-لم" ملقى أرضاً مغشياً عليه .
هرعت "زه-رة" تجاه زوجها وحملت رأسه فوق صدرها ونثرت بعض الماء على وجهه الشاحب .. فإذا به يتلقف أنفاسه بصعوبة ويطرد سعاله من صدره .. فنظرت "زه-رة" للسماء وجعلت تدعو ربها سراً .. وساعدته وولده على النهوض نحو مكان منامه ونظرت إلى عينيه وقالت : ما بك يا زوجي وحبيبي ؟
نظر لها "سا-لم" قائلاً : يا زهرة فؤادي .. حان أجلى وآن الرحيل إلى جنب الله .. فانتبهي جيداً لقولي فلا وقت لدى ..
أنصتت "زه-رة" لكلام زوجها باهتمام بالغ ودموعها تنساب من عينيها .. وهى تضمه لصدرها ورابح يجلس بجانبهما لا يعي ما يحدث .. وأكمل "سا-لم" كلامه بضعف ووهن : لا نملك من حطام الدنيا سوى ذاك العجل الوليد الذي وهبنا الله إياه وكان لجارنا العجوز "حا-بى"
حين مر بنا منذ شهرين وأرادني أن أحتفظ بالعجل نظير حزمة من الحطب كل أسبوع لمدة شهر حتى يتسنى لامرأته أن توقده للطهى والتدفئة .. فما كان منى إلا أن أمتثل لأمر الله .. والآن وقد انتهى الأجل المحدد وأصبح العجل لنا خالصاً {( فلا أملك سوى أن استودعه لدى من لا تضيع عنده الودائع )} .. وما عليك إلا أن تدعى العجل ليسرح فى الغيضة (المرعى) ولا تعودي به حيث لا يمكنكما العناية به وإن رزقه لعلى من خلقه .. وكانت تلك الكلمات آخر ما نطق به لسانه فلقى ربه مستودعاً جل ما يملك لدى من ذهب للقائه ..
وبعد أن وارت "زه-رة" جثمان زوجها التراب .. امتثلت لأمر الله وأمره فحملت رابح فوق كتفها وسحبت ورائها العجل الوليد حيث المرعى وتركته مستودعة إياه لدى ربها وعادت وطفلها را-بح لدارهما ..
وتمر أيام وسنون .................. وإذا ب را-بح شاباً يافعاً بالغاً يعمل كعمل والده حطاباً يعول والدته المسنه برحمة ووفاء وبر .. وذات يوم عاد من السوق دامي الوجه متورم العينين يدخل على أمه التي انتفضت فزعاً عليه وارتمت بين أحضانه باكيه قائله : ما بك يا قرة عيني أمك ؟
را-بح : لا تقلقي يا أمي فقد فرغت من بيع الحطب كما اعتدت ولدى عودتي هجم علىّ قاطع طريق فسلبني ما بعت به حطبي .
وامتزج بكائه ببكاء أمه وراح يندب حظه على ما فقد من قوت يومه ورزقه الذي نهبه وسلبه إياه قاطع طريق .
فراحت أمه تسرد له ما كان من أمر أبيه حين استودع ربه ما كان يملك من الدنيا مطالبةً إياه باسترداد ما استودع أباه .. فنظر لها بحنانٍ بالغٍ قائلاً : أيا أماه..كيف أسترد ما ضاع منذ ما زاد عن العِقد ونصفه؟
أشاحت زهرة بوجهها عن ولدها مستنكرةً قوله ..
قائلةً فى حدّه : توكَّلَ أباكَ فاستودع .. وما عليك إلا أن تتوكل فتسترد .
التمس رابح نبرة حزن فى صوت أمه وهو البارّ بها .. فما أراد أن يكون سبباً في زيادة همها .. فالتقط رأسها بين يديه فطبع قُبلة رقيقة فوق جبينها قائلاً : معك حق يا أماه .. ولسوف اخرج من فورى حتى أسترد ما استودع أبى .. ووضع قُبلة أخرى فوق اليد التى اعتنت به حتى أصبح على ما أصبح عليه وسلّم عليها وخرج تجاه مجهول ينتظره ....
وبعد حين .. عاد رابح ومعه بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها تسرّ الناظرين .....
وعلى جانب آخر .. وفى قرية مجاورة .. جلس "مو-سى" النبى يلقن أسماع أطفال بنى إسرائيل ما بلغه وأخاه من تعاليم الخالق ويذكر لهم ما كان من آبائهم حين خرجوا من مصر بأمر من ربهم تلقاء مصير محتوم .... فإذا به يسمع صياحاً وهتافاً وصراخاً ونحيب ...
وإذا ب "ها-رون" أخاه يقبل عليه قائلاً : يا نبيّ الله .. وُجِد "شا-ؤول بن صمو-ئيل" مقتولاً ومُلقى بجسده بعيداً وقد عثر عليه أحد الإسرائيليين حين خرج للصيد .. وقد اجتمع أهله وذويه الآن فى دار "صمو-ئيل" ينتحبون عليه وها هو أخاه "عا-مون" يطلب الإذن للقائك .. أشار موسى لأبناء أبناء عمومته بالانصراف ... وأشار لهارون قائلاً : فليدخل ..
دخل عامون يملأه الحزن على مقتل أخيه متوسماً فى موسى النبى الأمل فى أن يعثر على قاتل أخيه قائلاً : السلام على نبي الله .. جئتك بطلب من أبى بعدما حدث لأخي وهو يطلب منك المعونة فى البحث عمن قتل ولده .
قطب موسى حاجبيه مفكراً للحظة ... ثم طلب إلى هارون أن يجمع أسباط بنى إسرائيل وكبرائهم به من فوره .. امتثل هارون لطلب أخيه وذهب لتنفيذ أمره منادياً لفتاه .. وقام موسى يتوكأ على عصاه ذاهباً تلقاء " جبل التجلي " . وعلى عتبته .. ألقى عصاه وخر ساجداً وأناب .. مناجياً ربه طالباً منه الهدى لما سأله إياه قومه .
وفى محراب موسى اجتمع كبراء أسباط بنى إسرائيل فى انتظار موسى .. يهمهمون .. يتهامسون .. يتساءلون فى حيرة فهب السامري هاتفاً فى قومه : يا قومِ.. هل مازلتم تتوسمون فى موسى أن يدلكم على من قتل شاؤول ؟ وهو الذى مازال حتى الآن لم يتمكن من إخراجكم من (التيه) فى تلك الصحراء القاحلة ؟ .. فازدادت همهماتهم وهمساتهم وتساؤلاتهم .. وقبل أن يتمكن منهم الفكر دخل عليهم موسى النبى يلقى عليهم السلام .. فنهض الجمع إجلالاًله وتوجه لمقدم الجمع وهتف فيهم : سمعتم بحادث مقتل شاؤول وإني لأبشركم بأن ربي هداني لسبيل معرفة ما تتساءلون عنه .
أخذ الجمع يتبادلون نظرات الدهشة فيما بينهم فى حين قطع الصمت صوت السامري متسائلاً : ومن هو ذا الذي قام بتلك الفعلة الشنعاء ؟ بل وكيف يمكننا معرفته ؟
فرفع عصاه فى وجه الجمع وقال موسى لقومه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة .
فأطبق الصمت على المجلس فى حين كسر السامري حاجز صمتهم قائلاً فى سخرية: ها هو موسى يسخر منكم كما يفعل دائماً .. فانطلق الهرج والتساؤل بين جنبات المجلس وسط الجمع ...
واكمل السامرى : أتتخذنا هزواً ..؟..
قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .
قالوا : ادعُ لنا ربك يبين لنا ما هى ..؟..
هتف هارون في الجمع قائلاً : ما بكم يا قوم ؟
يقول لكم بقرة فتردون .. ما هى ؟
فأشار لهارون وقال موسى : إنه يقول إنها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون .
قالوا : ادعُ لنا ربك يبين لنا ما لونها ..؟..
قال : إنه يقول إنها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها تسر الناظرين .
قالوا : ادعُ لنا ربك يبين لنا ما هى إن البقر تشابه علينا ..
وإنا إن شاء الله لمهتدون .
قال : إنه يقول إنها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض .. ولا تسقى الحرث .. مسلّمةٌ .. لا شيةَ فيها .
وهنا .. صرخ هارون في الجمع قائلاً : ما خطبكم ؟ هل لكم أن تستجيبوا لنداء ربكم ولا تتلكؤوا كعادتكم .. فاذبحوا بقرة ..
حتى يتسنى لذاك المكلوم صموئيل أن يبرد قلبه على فراق ولده ويعلم فقط للعلم من ذا الذي قتله .
إنتبه الجمع لقول هارون واستبقوا خارجاً فى حيرة وشك قلوبهم شتى حول ما ألقاه موسى على مسامعهم من أمر الخالق ..
تفرق الجمع إلا قليلاً منهم .. وذهبوا لدار صموئيل سبط "يهوذا بن يعقوب" النبى يخبرونه بما وصلهم من أمر رب موسى حول البقرة المزعومة .. والتي سوف تكون سبباً في معرفة قاتل ابنه شاؤول .. واستدعوا الطبيب ميرا ليعمل على حفظ جثمان القتيل حتى إشعار آخر ..
وفى صباح يوم جديد اجتمع كبراء الأسباط يتباحثون حول كيفية إيجاد بقرة ذات صفات غريبة لم يألفوها من قبل .. وخلصوا لأن يبعثوا مواليهم للقرى المجاورة بحثاً عسى أن يعثروا عليها .. وبالفعل عاد أحد الموالي لسيده بخبر سمعه عن بقرة تنطبق عليها المواصفات التي بلَّغها موسى عن ربه .. فذهب ثلاثة منهم بقيادة "جلعاد سبط نفتالى بن يعقوب" النبى لإحضار تلك البقرة الدليل على قاتل شاؤول .. وسألوا عن صاحبها فعرفوه وجلسوا معه بالسوق حيث عمله كحطاب .. فسأل جلعاد رابح : يا هذا .. سمعنا بأنك تمتلك بقرة صفراء فاقع لونها .. لا ذلول .. تثير الأرض .. ولا تسقي الحرث .. مسلَّمة لا شية فيها.. أليس كذلك ؟ تملّكت الدهشة من رابح فرد متسائلاً : نعم هى لي .. وما أدراكم بذاك الوصف الدقيق ..؟.. فلم يعرف بوجودها عندي سوى جاري العجوز حابي ، وهو لم يرها حتى ..
إنما يعلم فقط بلونها .
جلعاد : أنبأنا بأمرها موسى النبى .
رابح : والله ما كذب .
جلعاد : من اين لك بتلك البقرة الغريبة المواصفات ..؟..
رابح : لقد كانت لأبى فأورثني إياها .
جلعاد : هل لك أن تبيعنا إياها ..؟.. فنحن نعرض عليك فيها خمسون قطعة فضة .
رابح : لست أدري .. فلا رأى لي فى ذلك وحدي ..
إنما الرأي الأخير لأمي .
جلعاد : لابأس .. لتسألها وتعود لنا بالرد .
فرغ رابح من بيع حطبه وترك جلعاد ومرافقيه بالسوق وعاد لأمه فرحاً بما عرض عليه لقاء بقرتهم الصفراء .. وألقى على مسامعها ما ورده من كلام الإسرائيليين عن البقرة ومعرفة موسى الرسول بمواصفاتها من دون رؤيتها .. وعرضهم لشرائها مقابل الخمسين قطعة من الفضة .. فأبت أمه .
ولاحت نظرة الخيبة على وجه رابح فعاد لجلعاد بالسوق وأخبره رأى أمه حول الأمر .
جلعاد : لتأخذنا إليها فنحن نستطيع أن تؤثر عليها حتى ترضى ولا تخف فنحن أسباط النبى يعقوب لا نؤذى أحداً بل فى عقبنا الخير كله. وبالفعل امتثل رابح لأمر جلعاد وذهب بهم لداره للقاء أمه ليتفاوضوا معها لتبيعهم بقرتها المباركة .. وحين التقت زهرة بجلعاد استشفت فيه خبثاً .. فجاهد جلعاد محاولاً استرضاءها لتبيعهم بقرتها بكافة السبل حتى وصل معها لخمسة آلاف قطعة ذهب .. ورابح ولدها ذاهل من إصرارها على عدم بيعها إياهم .. فغادروا وهم يجرون أذيال الخيبة والخزي حتى عادوا قريتهم .. وقصُّوا على صموئيل ما كان من أمر صاحبة البقرة وولدها .. فجثا أمامهم صموئيل متوسلاً إياهم أن يقبلوا بأي ثمن تريده المرأة حتى يتسنى له معرفة قاتل ابنه ليقتصَّ منه لمقتل ولده الحبيب .. وبالفعل استجاب كبراء الأسباط لاستجداء صموئيل فذهبوا لزهرة وولدها وقصُّوا عليهم قصة القتيل مبشرين إياهم بشراء بقرتهم بعد عسير مساومة .. بمليء جلدها ذهباً شريطة أن تكون سبباً فعلياً في معرفة القاتل .. وافقت زهرة على أن يكون ذاك الاتفاق بحضور و مباركة موسى النبى .. رضخ الأسباط لأمرها فعادوا جميعاً حيث محراب موسى وأشهدوه على صفقتهم فباركها وأشار لهارون باستدعاء جميع الإسرائيليين وإحضار جثة شاؤول أمام المحراب .. فاستجاب هارون وبعث منادياً ليجوب انحاء قريتهم فهرع الإسرائيليين يتآكلهم الفضول لمعرفة قاتل شاؤول...
وحين حضور الإسرائيليين .. بما فيهم رابح وأمه ..
وجثة شاؤول والبقرة ..
تأهب "موسى" وأمر بذبح البقرة الصفراء
الفاقع لونها .. "فذبحوها وما كادوا يفعلون" .. فاقترب "موسى"
من الذبيحة ونظر لها في خشوع وتناول سكين الذبح بلطف ونطق : سبحان ربي الله ، وبتر
قطعة لحم من كتفها وترك سكّينِه وتوجه لجثمان شاؤول ونظر له مشفقا .. فحقّق أمر
خالقه حين تلقّاه في جبل التجلّي من ربه ..
" اضربوه .. ببعضها
.. كذلك يحيي الله الموتى .. ويريكم آياته لعلكم تعقلون " ونظر
"موسى" لشاؤول ونطق : ربي الله أكبر ، {( فضرب "موسى" جسد
ميتٍ .. بجزءٍ من جسدٍ ميت .. فتحقق وعد المحيي المميت }).. فالتقط الميت نفسا
عميقا .. وفتح عينيه .. وجلس .. فنهض .. فعاد شاؤول حيا .. وسط رهبة ودهشة الجمع
..
_ فسأله موسى : يا شاؤول
.. أخبرنا بأمر من ربك الله عمن قتلك ..؟؟..
_ فانتبه شاؤول للجمع ودار
بنظره على أوجه الحضور .. فكان أقربهم منه أخاه عامون وأباه صموئيل .. فهمّٓ برفع
يده مشفقا مشيراً إلى أخيه قائلاً : أقتلتني لتستحوذ على ما ليس لك ..؟؟.. ربي
الله لم يرض فعلك وقد أختصمتك أمامه حين الحساب . وسقط شاؤول ميتا من فوره وفي
حينه ومكانه .
فهلع وهرع عامون صارخاً فليرحمن رب الخلق .. وجعل
يعدو ويجري بصحراء قاحلة وبغير هدى حتى نهشته مخالب الندم على قتله أخاه ..
والتهمته أنياب الظمأ والعطش حتى لفظ أنفاسه ولحق بشاؤول الذي اختصمه أمام خالقه .
وفي قلب الحدث نال صموئيل أبا شاؤول نصيبه الأكبر والأوفر من الهم والحزن ووافته المنية
وانتقل لجوار بنيه .
واتجه موسى للجمع الحضور هاتفا فيهم : "
يابني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم انبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما
لم يؤت أحد من العالمين ".
وانتهى فصل من فصول نقد عهد الإسرائيليين لربهم
...
#أفق_حلمي...
#تجليات_أحمد_حلمى...
تعليقات
إرسال تعليق